العـابرون إلى الداخلبقلم القاص جمال فايز على غير عادته .. جلس أمام البحر وقت الأصيل .. هذا الوقت الذي اعتاد أن يمشي فيه .. أخذاً بنصيحة طبيب مستوصف منطقته الصحي .. الذي أوصاه بالمشي إن أراد التقليل من وزنه الزائد .. والمحافظة على صحته المعتلة .. نتيجة تقدمه في السن الذي جاوز العقد السابع.
طاب له أن يتأمل اليم .. يتتبع شرائط موجه الذهبي .. ينتشي برائحته العطـــرة .. يملأ به جوفه ، ويرى طيور النورس .. ترفرف أمامه فوق البحر ، في شكل شبه دائري ، ومحمـل (1) بدأ يظهر في الأفق .. يقترب سريعا.. .. ذكره بأصحابه ، الذين منهم باقي ومنهم رحل ، وتبسم لتلك الأيام الحــلوة المتعبة .. ولعواد .. السيب(2) الذي كاد ان يتسبب في وفاته ، عندما شد الحبل له مرتين طالبا سحبه من قاع البحر ، واستجاب له في المرة الثالثة ، وصعوده المحمل غاضبا ، فأطفـأ جمرة غضبه باعتذاره وتقبيل رأسه ، مرجعا عذره ليس لإهمال إنما تفكيره في مولوده البـكر ، ولم يرد ، واقسم الاخر ان لا يتعشى حتى يصفح له .. " وضحك .. أخذ حصاة صغيرة رآها عن يمينه ، قذف بها في اليم، وتمتم" الله يرحمك يا عواد ، وتأمل المحمل .. آلمـه ان يراه من غير أشرعة .. من غير مجـاديف .. إنما أصبح يوضع بدلا عنهما .. مكائن يزداد سماعه هديرها كلما اقترب منه .. تدفعهُ بلا رأفة إلى الأمام .. كأنه شاه يقاد الى نهايته ، أو ينحر فرحا بعد الانتهاء من السكن في بيت جديد أو يجز بعد تطهير مولود جديد .. تألم كلما رأى مقدمة المحمل ، ترتفع وتغطس في داخل المياه ، وانشقاق البحر امامه كأنما يرأف لحاله ، ليُسهل عليه من سرعة اندفاعه .. هكذا خيل له.
اقترب المحمل كثيرا .. متجـها إلى ميناء المدينة .. غير البعيد عنه .. وكلما ازداد اقترابه هُدّئ من سرعـته .. وقف ينظر لعله يرى الذين عليه ، لعله يجد أحـداً منهم يعرفه ، فما رأى فيهم واحداً من ناسه.
نظر من جديد عن يمينه .. عن يساره ، ما وجد حصاة ثانية ، نهض .. واصـل مشيه ، ولحظ أمرا أثناء سيره .. لم يسبق ان استرعى انتباهه من ذي قبل .. أنه هو الآخر .. أصبح مثل المحمل .. يندر ان يرى من الماشـين بجواره وامامه ، على ساحل مدينته .. واحداً منهم من اهله.
الدوحة - يونيو 2008
----------(1) المحمل: الاسم الشعبي الذي يطلق على سفن الغوص(2) السيب : هو الشخص الذي تقوم مهمته على سحب الغواص من داخل البحرعن: http://www.jamalfayez.com/55.htm