جمال الهاشمي
كثر و يكثر الحديث في أيامنا هذه عن موضة جديدة اسمها التنمية البشرية، و التي يزعمون أنها جاءت لإنقاذ المغرب من السكتة القلبية، فجندت كل الوسائل لإنجاحها و بعد سنوات من هذه التنمية يبقى السؤال: إلى أي حد حصلت حقا تنمية في البلاد ؟ و إن كان حصل شيء فعلا، فإلى أي حد يمكن اعتباره تنمية ؟ ليبقى التساؤل الكبير على ماهية التنمية الحقيقية و إلى أي حد نحن مؤهلون و نسير في طريقها الصحيح ؟
بعدما كان المغرب و على غرار سائر الدول العربية و الإسلامية كما الجميع مشغولا بفترة الاستعمار و ما صاحبها من نهب للخيرات و استغلال للثروات، و بعدما كان المغرب و المغاربة إبان الاستعمار يمنون النفس بانجازات المقاومة الوطنية ضد المستعمر و ما صاحب ذلك من حماس الشعب و أمله في غذ أفضل بعد الانعتاق من الاستعمار، و حين نال المغرب استقلالا عن فرنسا في الجانب العسكري و منقوص، أصبح المغاربة يواجهون فترة ما بعد الاستعمار بترتيب المغرب لبيته الداخلي و ما صاحب هذا الترتيب من قلاقل و أزمات عادة ما كان الشعب المغربي يدفع ثمنها.
المهم أن الشعب كابد كل أنواع الحيف من ظلم و سلب معظم حقوقه فتعرض لفترات من التعسف و هدر لحقوق الإنسان بالتعذيب فيما عرف بسنوات الرصاص، و كذا بنهب الثروات من قبل فئة ظالمة، مع ما نتج عن ذلك من تخلف على سائر المستويات و ضعف مستويات التعليم و الصحة و الاقتصاد، و توالي سنوات الجفاف الناتج بدوره عن تدني الأخلاقيات و شيوع الظلم و التظالم مما لا يرضاه الله، فانتشرت البطالة و عم الفقر و العوز، و في أحسن الأحوال، و حتى نكون منصفين، فإن المغاربة قد عرف معظمهم ضيق الحال، حتى أن معظم الموظفين لا يكادون ينفكون من أغلال الديون بين نهاية شهر و بداية آخر .
المهم أن الأوضاع باتت متردية بالفعل مع تصنيفات غاية في الإحراج فيما يخص مستويات التنمية البشرية.
ليتفتق الذهن الوقاد لمسئولي البلاد عن فكرة التنمية البشرية فأطلقت هذه الحملة، لكن للأسف بنظرنا و بحسن نية أو بسوئها، بسبب الجميع أو بكيد البعض من عديمي الكفاءة فإن هذه القاطرة لم تنطلق الانطلاقة الصحيحة.
و هكذا بينما نرى ملايين الدراهم تنفق و تستهلك، لا نجد تنمية حقيقية بالمعايير الثقيلة و الحقيقية للتنمية، و لعل السبب في ذلك بنظرنا هو فلسفة التنمية و استراتيجياتها التي لم تكن سديدة.
و باختصار فان هذه التنمية قد أغفلت قطب الرحى في أي تنمية ألا وهو الإنسان، ذلك الكائن الذي يصنع الحياة و تصنع له و قد يدمرها أيضا، ذلك الكائن الذي حباه الله بقدرات خارقة سخر له الكون بفعلها، و هكذا نجد انه في حين لازال الشعب يرزح تحت نير الأمية، و من يفك الخط يرزح تحت نير الجهل و عدم الوعي و الممارسات الخاطئة المدمرة و لا يكاد يعرف هدفه في هذه الحياة، نجد أن هذه التنمية قد مضت متجاهلة كل هذا فماذا كانت النتيجة؟
لقد كانت أن فقد أبناء الشعب الثقة في هؤلاء المسئولين الذين أضافوا نهب الاعتمادات المخصصة له إضافة إلى ما سبق و نهبوه.
ولعل من آخر ما كان إلى الأمس القريب عنوان العمل الجاد و التضحية و التعاون و التوعية و التثقيف و الترفيه، ألا و هو العمل الجمعوي قد تحول من مجال لتنشيط المجتمع و مساعدته على رفع وعيه و تثقيفه و الترفيه عنه و تهذيبه في جو من التضامن و التضحية و التآزر الخالي في معظمه من أي خلفيات أو أهداف مبيتة، تحول إلى مجموعة من المقاولات الصغيرة أو المتوسطة المتناحرة بينها في تقديم مشاريع لا تعكس في الغالب الاحتياجات الحقيقية للإنسان المغربي، فقط لتحظى بنصيبها من غنيمة المبادرة الوطنية حتى بتنا نسمع برؤساء للجمعيات شيدوا دورا وأقاموا مشاريع من هذه الأموال، مما زاد من فقدان الثقة داخل المجتمع بعضه ببعض.
و في أحسن الأحوال نجد ما حققته هذه المبادرة و جمعيات كبيرة مدعومة بقوة، دار طالب هنا أو صهريج ماء في ذاك الدوار أو إصلاحية هنالك أو عربة لنقل التلاميذ قد لا تستجيب للشروط الواجبة، المهم أنها مشاريع في معظمها لا تستجيب للحاجة الحقيقية للمجتمع، تغطي بها الدولة فشلها في خدمة المواطن و تكوين مواطن محترم و قادر على المطالبة بحقوقه الحقيقية و الإسهام الفعال في بناء صرح مجتمعه، فكانت هذه المشاريع كمن "يضع العكار على الخنونة " فأي زينة هذه؟ فبمجرد ما تسيل الخنونة و تكثر سيفسد "العكار" و يبهت لونه، و مما يضحك و يبكي في الآن نفسه قصة "زلافة الحريرة" و هذا جانب آخر من التنمية فلماذا الإصرار على إعطاء المواطن السمكة أو "زلافة الحريرة"، عوض أن يعلموه كيف يصطاد السمك بنفسه و يعطوه صنارة و تجهيزات، و يعطوه دورات في الصبر و المثابرة فيصطاد سمكه بنفسه و بكرامة، أو يعد "برمته" من الحريرة حسب شهيته و ذوقه.
و هكذا فان التنمية الحقيقية بنظري تبدأ أول ما تبدأ من الإنسان نفسه، فننمي فيه أولا الثقة والتوكل على الله، ومن تم الثقة في نفسه و قدراته و المحافظة على جسمه و طاقته، و التسامح مع الآخرين و حب العطاء و المشاركة، و هكذا عندما نستطيع أولا أن نبني الإنسان المطلوب و هو ذالكم الإنسان المتعلم المربي الواعي المتفائل الصحيح الجسد الرياضي الذي لا يدخن أو يشرب خمرا، إذ كيف يعقل لمن ليس يملك جسما سليما أن يسهم في مجتمع سليم.
يحب الله و يتعلق بوطنه، و يحب إخوانه و أبناء شعبه، يقبل على العمل و العطاء، يحب الآخرين كما يحب نفسه، متسامح طموح و يشتري آخرته بدنياه، فتراه مقبلا على العمل و التضحية بجهده و ماله ووقته في سبيل سعادته و سعادة الجميع .
في تربة هذه الشخصية المتكاملة القوية، نستطيع أن نغرس أي غرس و أية مبادرة و دون حتى تكلفة كبيرة، فترى هذا الإنسان يسعى بكل نشاط لإنجاحها و يبدع من عنده و يشرك معه إخوانه الضعفاء و ينشط محيطه.
أما أن نضع مشاريع مهما كانت عملاقة و بتكلفات باهضة، لإنسان ضعيف متخلخل في كل جوانب حياته فاقد للثقة في الجميع بدءا من نفسه فهذه إضاعة فظيعة للوقت و الجهد و المال و تأخير للانطلاقة الحقيقية.
و إنما المطلوب بنظري هو أولا إخلاص النية لله و للإنسان في إرادة التنمية، ثم تعاضد ذوي النيات الحسنة الحقيقية و هم كثيرون في جمعيات و منظمات و إطارات، هدفها الأول تكوين ذلكم الإنسان المتكامل الذي أشرنا إليه، عبر جهود طبعا مضنية طويلة ومتواصلة، فكما كان يقول أحد أساتذتنا "أن تصنع إنسانا أصعب بكثير من أن تصنع طائرة " هذا مع النية الصحيحة الخالصة لله، و البداية و الانطلاقة الصحيحة المبنية على وضوح الهدف و التخطيط المحكم و إثارة العزائم و إنهاض الهمم و التوكل على الله حق التوكل، كل شيء يهون و الخير آت بإذن الله "إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتكم خيرا" ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكما جاء في الحديث "إن تصدق الله يصدقك". فلنبدأ بالتنمية الذاتية لذواتنا و محيطنا الصغير ومن تم نقيم صرح المجتمع المزدهر المتضامن و الراقي.