خفة االحكاية[1]في قصة "الحفرة د. محمد بوعزة
المغرب
المتتبع لما ينشره الناقد والقاص محمد ادارغة من قصص، تتشكل لديه صورة للكاتب ،يستشفها من سمات الحكي والمتخيل، المتواترة في متنه القصصي . إنها صورة إنسان خفيف الظل، لا تفارق السخرية كلامه، وذلك بسبب صورة العالم القصصي الذي يطل منه بوجهه الساخر. عالم ينبثق من رحم الواقعي في بشاعته وقبحه وفوضاه غير المحتملة، لكنه بفضل لمسته الأدبية الساخرة، يحوله إلى عالم خفيف، تحتمل هشاشته. وأستطيع القول إن أهم موهبة تميز القاص محمد ادارغة ،هي أنه يتفنن ويبدع في السخرية من كائناته القصصية. وتقدم قصة " الحفرة" صورة مكثفة لهذه الموهبة.
الحكاية/ تغريب الألفة
من منظور التجنس تحيل القصة على حكاية عجائبية ، تحكي حكاية "حفرة " في الطريق بأحد الأحياء الشعبية، توصلت باستدعاء للمحكمة قصد التقاضي بوصفها المدعى عليها ، متهمة بمخالفة القانون، حسب نطق القاضي.. في مشهد ساخر تجد "الحفرة" نفسها مجبرة على الدفاع عن وجودها في الطريق العام. وهو مشهد عبثي يقلب الأدوار المنطقية، فالحفرة هي نتيجة فعل فاعل، أي نتيجة إهمال جهة رسمية في القيام بواجبها. لكن القاص وإمعانا في السخرية يقلب الأدوار، ليرمي بكائناته الغريبة في فخاخ المفارقة.
تنبني القصة على تمفصل هجين بين العجائبي والساخر، الجد والهزل. وبدخول" الحفرة" إلى قاعة المحكمة تنطلق الحكاية في مشهد ساخر. في طريقها إلى القاعة تضع الحفرة "حملها"، من علب تصبير فارغة، ومزق الورق وندف القطن وفوطات الحيض وأكياس البلاستيك، إلى تدفق وحدات ضفدعية، وتخنق أنفاس الحاضرين، بوابل من روائح القمامة النتنة.
في المحكمة يقدم المندوب مرافعته، ثم تقدم "الحفرة" مرافعتها. يبرر عون السلطة عدم معاينته للشرارة الأولى لبروز "الحفرة" في الشارع العام، بكثرة مهامه وأعبائه التي يمارسها . ثم تأخذ "الحفرة" الكلمة وتبدأ في سرد معاناتها. ثم تعطي الكلمة لأمشاجها في الحديث، وهكذا تتوالى على الحكي الكائنات التي تتعايش وتعيش وتعتاش في ومن بطن" الحفرة"، وندخل في سلسلة من الحكايات المتناسلة:
* حكاية علبة المربى، التي اعتبرت الجاني الأصلي، هو الشخص الذي رمى بها في الحفرة.
* حكاية الورق المقوى، الذي ندب حظه، بسبب يد طائشة مزقته وألقت به في الحفرة.
* حكاية الفوطة الدامية: ندبت حظها لأنها موضوع سخرية وإدانة من الجميع.
* حكاية كيس البلاستيك، بالنسبة له، الإنسان أصل البلية في كل المراحل.
* حكاية الضفدعة التي سقطت في الحفرة، وهي الوحيدة التي عبرت عن مقامها المريح بالحفرة.
بعد السماع لجميع الأطراف قضت المحكمة ا بالحكم التالي: على الحفرة أن تعود إلى موضعها في انتظار استدعاء الجناة الأصليين.
تقوم إستراتيجية الحكي في القصة، إذن، على الخرق. خرق الألفة باستدعاء جمالية العجائبي. فإلى جانب الأثر الواقعي (المحكمة، الشخصيات الإنسانية، الفضاء ) تستدعي القصة العجائبي ،ممثلا في الجماد، الحفرة وقد تأنسنت، وأيضا الجمادات التي تسكن داخلها والضفادع ، حيث يتم بفعل اجتياز عتبة الواقعي، تحويل الجمادات والحشرات إلى كائنات تتكلم على صورة الإنسان. هكذا باستعارة صفة الكلام للجماد والحشرات يتم الانتقال من الواقعي إلى العجائبي.
يتم خرق الألفة أيضا، بتخيل سياق لا واقعي للقصة هو سياق المحاكمة بين إنسان و"حفرة"، أي بين إنسان وجماد، بين عاقل وغير عاقل. يخرق السياق الجديد الحد الذي على أساسه يتم التمييز بين الكائنات والأشياء، ووضع الحدود، أي مفصلة العالم إلى هويات وكائنات وأنواع منفصلة.
الملاحظة الجديرة بالتنويه في استدعاء القاص لبنية العجائبي، أنه يوظفه بإستراتيجية جمالية مغايرة لما يعرف بالحكاية الخرافية، حيث العجائبي ينبثق من كائنات فوق طبيعية. على خلاف ذلك، ينبثق العجائبي في قصة الحفرة من رحم الواقعي (الحفرة) ومن صميم الألفة، وتتولد سمات الدهشة والتردد في النص من زحف الواقعي على النص، الذي يفوق في بشاعته وسخريته كل معقول( الضجة التي أحدثتها الحفرة وهي تقتحم قاعة المحكمة الموقرة)، وهو الاقتحام الذي يترتب عنه إدراج الواقعي في زمنية هجينة، تمزج بين الجد والهزل، الغرابة والألفة، الرفيع والوضيع، السخرية والحكم.
الحكي/ تناسل الحكايات
إذا كانت القراءة الأفقية للنص تقود إلى الاعتقاد بأن النص يتكون من حكاية واحدة، هي حكاية" الحفرة" في مواجهة الدعوة المرفوعة ضدها، وهو اعتقاد متوهم، فإن القراءة العمودية بانتهاكها خطية النص، تسمح بالتخلص من سلطة الصورة الكلية، والانتباه للصور الجزئية التي تخترق كلية النص.
هكذا تنبثق من أحشاء "الحفرة" حكايات صغرى لكائنات وجمادات رمت بها الصدفة في جوفها (الحفرة)، وعبر استغلال البعد العمودي لجغرافية "الحفرة"، يستفيد القاص من تقنية الحكاية داخل الحكاية، ضمن ما يعرف في السرديات بنسق التأطير، الذي يقتضي وجود قصة إطار، تكون بمثابة القصة الكبرى والأصل (قصة الحفرة)، وقصص مؤطرة، تكون بمثابة القصص الصغرى، تتشعب عن القصة الأصل ( قصص الكائنات التي تعيش داخل الحفرة).
هذا التوظيف للبعد العمودي، يسمح للخطاب السردي بالتخلص من خطية السرد، والانفتاح على انعطافات ومسارات جديدة، ليست بالضرورة مطابقة لمسار القصة الأصلية. كما رأينا تنفتح في مسار الحكاية الأصلية خمس حكايات صغرى ترتبط بالحكاية الأصل بعلاقات التعارض والتماثل. وإذا كانت كلها تأتي في سياق تأكيد أطروحة "الحفرة"، مشتغلة وفق قوانين التكرار والتكثيف، فإنها في الوقت نفسه تكشف عن صور قاتمة أخرى للواقع الذي تنتقده القصة، واقع التهميش والاستخفاف بقيمة الإنسان، بحيث يغيب الإنسان من المشهد وتحتل القمامة بطولة المسرح. وإذا ما تجاوزنا وظيفة الإضاءة والكشف التي ترتبط بالطابع الأطروحي لحكاية "الحفرة"، نلاحظ أن هذه التقنية من المنظور الجمالي تتيح تعميق انفتاح القصة على التخييلي، ممثلا في بنية العجائبي، وهو ما يساهم في تغليب البعد التخييلي للنص على البعد الواقعي، على الرغم من أن نواة الحكاية واقعية. وبالتالي تأكيد وظيفة تغريب الواقعي، بنزع الألفة عن شكله وصورته الطبيعية.
وعلى مستوى الخطاب السردي، تفيد تقنية الإطار في تنويع محافل السرد، بالتخلص من صوت السارد الذي يهيمن بمعرفته المطلقة على عالم الحكاية، وهو ما يساهم في تنسيب هذا الصوت الكلي المهيمن. هكذا تحضر في النص أصوات عديدة: صوت القاضي، صوت المندوب، صوت "الحفرة"، صوت الضفدعة، أصوات الكائنات الأخرى التي تعيش في أحشاء "الحفرة". أصوات مختلفة تعمق هجنة النص الساخرة. لكن الأمر لا يتعلق بهجنة عفوية، بل بهجنة مشخصة أدبيا، يعاد توزيع علاقاتها وفق منظومة تشاكلات دلالية: صوت الإنسان/ صوت الجماد/ صوت الحيوان، وأيضا تشاكلات إيديولوجية : صوت السلطة، وصوت الإنسان المقهور وقد تحول إلى مسخ، أي حفرة للنفايات.
هكذا ينمو الحكي في القصة نتيجة لتقنية الإطار، في مسارين، مسار أفقي يواكب القصة الأصلية في سيناريو المحاكمة، ومسار عمودي يواكب الحكايات المتناسلة عنها، في انتقالها من صوت إلى آخر، وهو ما يجعل الحكاية تنفتح على سيناريوهات أخرى ظلت غائبة عن علم المحكمة، وهو ما أفضى في النهاية بالقاضي إلى تغيير رأيه، والاقتناع بأطروحة "الحفرة".
وعلى الرغم من أن القصة تروى بلسان الراوي الغائب الكلي، فإن تقنية الإطار، عملت على الحد من هيمنته، بإدراج أصوات أخرى على مشهد السرد، أصوات ساخرة في مجملها. مع أخذها للكلمة، تخرق مرافعة" الحفرة" طابع الكلفة والمهابة الذي يقتضيه سياق المحكمة. ويذهب الراوي بعيدا في التنازل عن ملكيته الخاصة للكلام، حين يعمد إلى نسبة الكلام إلى راو آخر، بما يفيد أن السارد مجرد ناقل محايد للخبر (يقال والنادل عليم شاهد، أضاف الراوي، منها أن المروي عنه) . تستلهم هذه الصيغ السردية صيغ السرد الكلاسيكي ،من قبيل (بلغني، زعموا أن). وهي الحالة التي ينسب فيها الراوي الكلام إلى راو آخر، بحيث تقتصر وظيفته على نقل الكلام، ولا يتحمل تبعاته.
وبفضل تقنية الازدواج هذه، أي المزج بين الهزل والجد، الألفة والغرابة، تحرر النص من الطابع الأطروحي المباشر، وهو ما حول فضاء المحاكمة من فضاء ثقيل على النفس، إلى فضاء خفيف،
تحكمه خفة السخرية، ونسبية الهجنة المرحة .
عنصر آخر ساهم في خفة الحكاية هو ما نسميه باللعب اللغوي، فالسارد يحكي بطريقة انسيابية غير متكلفة. تبدو اللغة طيعة بين يديه، مثل عجينة الأطفال، يعلب بها كما يشاء، يطوعها لغرضه الرئيس،وهو السخرية من الواقع، لذلك يعتمد على الحكي بلغة ساخرة، تقوم على الالتفات، وتقنية التدخلات السافرة ، والتعليقات التهكمية، بحيث لا تفارق النبرة الساخرة التشخيص الأدبي لعناصر العالم القصصي..ثم إن السارد يتعمد تهجين اللغة، حين يوظف بعض المفاهيم ذات المرجعية العلمية الرصينة عبر آلية المحاكاة الساخرة، حيث يدرجها في سياق هزلي مبتذل، يشوه معناها (الجدلية، السيناريو، الشرخ، المراقبة المستمرة..)، من ذلك قوله( فإن واحدا منها يبدو أشد قابلية للتصديق والمصادقة لعدة اعتبارات منها أن المروي عنه عون شبه ملحق بالمكان، ذلك أن امتهانه صفة نادل بالمقهى المجاور يرخص له في جدلية الدخول والخروج دون الرضوخ للمراقبة المستمرة). نلاحظ في هذا المقطع إدراج القاص لمفهوم الجدلية(وهو مفهوم علمي في النظرية الماركسية) في سياق هزلي يومي مبتذل، هو حركة النادل في تلبية طلبات الزبائن، وهو ما يفرغ هذا المفهوم من محتواه ومرجعيته، بحيث يصبح في وضع غريب داخل الجملة، لأنه مستعمل في غير معناه الأصلي.
بهذه الأشكال الساخرة يسفر السارد/ الكاتب عن صورته. إنه سارد تهكمي يصنع العالم ويخلق كائناته، ويرمي بها في فخاخ المفارقة، ثم يجلس في الخلف يتهكم على مصائرها العبثية.
قدمت هذه الورقة النقدية في احتفالية تكريم القاص والناقد محمد ادارغة ضمن فعاليات مهرجان مولاي إدريس 17/07/2011.[1